«السي المدني»…« اللهم الأستاذ غايب ولا بالسبسي حصلو النايب»
تم النشر بتاريخ 17 ديسمبر 2024 على الساعة 16:02
جريدة العاصمة / خليل المنوني
يعترف شقيقي الأكبر الأستاذ عبد الحكيم المنوني أن السنوات الطويلة، التي قضاها مدرسا ومديرا بالعديد من المناطق الريفية النائية، منذ أن قذف به في غياهبها منجنيق« النفي»، عفوا التعيين، كانت عسيرة الهضم إلى حد كبير، وكأنها قطعة لحم جاموسة مصرية بين فكي عجوز تجرأت عصا الزمان على تهشيم أسنانها، بما فيها «أسنان المنجل»، إلى درجة أنه كان يعاتب نفسه في بعض الأحيان على اختياره الانخراط في سلك التعليم الابتدائي، لا لشيء وإنما لظروف العمل الصعبة، بسبب عدم توفر الحد الأدنى لشروط الاشتغال بتلك المداشر«الخارجة عن التغطية» من جغرافية المغرب غير النافع، على حد تعبيره.
لكنه يعترف بالمقابل أن الممارسة في ظل هذه الظروف القاسية لا تخلو من طرائف وملح تنسي المدرسين، ولو مؤقتا، مرارة وعلقم المعاناة اليومية، وتخفف عنهم بالتالي لوعة ولواعج البعد عن الأهل والأحباب، الذين تفصلهم عنهم مسيرة قرن من الزمن.
يذكر الأستاذ عبد الحكيم من بين هذه الطرائف العجيبة والمسلية، التي ظلت عالقة بذهنه، أنه حينما كان يشتغل في أواسط ثمانينات القرن الماضي، بإحدى الفرعيات التابعة للمجموعة المدرسية، الواقعة في النفوذ الترابي لإقليم شفشاون، (يذكر) أن زميلا له، «السي المدني»، وهو اسم مستعار، كان يعمل بمفرده في فرعية أخرى لتوفرها على حجرة وحيدة ومستوى واحد(قسم التحضيري)، وكان هذا الأستاذ من المدمنين على التعاطي لمخدر القنب الهندي(الكيف)، فكلما أحس بالرغبة في التدخين لا يتأخر لحظة في مغادرة الفصل قاصدا ساحة المدرسة، التي لم تكن مسورة، وهناك يجلس تحت إحدى الأشجار وارفة الظل، ويخرج من جيب سترته العدة، المتمثلة في (السبسي والشقف والمطوي والولاعة)، قبل الشروع في الانتشاء بـ«الشقيفات المدرحة بطابة»، مرتشفا «دكيكات» من مشروب الشاي «المشحر»، الذي يحضره معه دائما من المنزل في قارورة زجاجية لمربى المشمش.
ويضيف أنه في أحد أيام فصل الربيع، وبينما «السي المدني» غارق في ممارسة«هوايته المفضلة»، إذا بسيارة تتوقف على حافة الطريق وعلى مثنها شخصان، نزل منها رجل وسيم الوجه وأنيق الهندام، لم يكن سوى المدير الإقليمي لوزارة التربية الوطنية، فتقدم نحو «السي المدني»، الذي كان يتعاطى المحرمات، ليخاطبه : «ماذا تصنع هنا ؟ وهل تعلم عواقب تناول الممنوعات داخل مؤسسة تربوية لها حرمتها وهيبتها ؟»، سؤالان نزلا كالصاعقة على أم رأس«السي المدني»، الذي اشتعل شيبا، فما كان من الأخير إلا أن فكر في حيلة تجنبه ويلات(البلية الزغبية)، قبل أن يرد قائلا: «أنا والد أحد التلاميذ، الذين يدرسون بهذه الفرعية وحضرت إلى هنا بطلب من الأستاذ الذي يلقن ابني أبجديات اللغة العربية بالمستوى الأول، والذي أنتظر قدومه بين الحين والآخر، خصوصا وأن التغيب عن العمل ليس من شيمه ولا حتى من عوائده، على عكس بعض المعلمين الذين تعاقبوا على العمل بهذه الفرعية». لحظتها قاطعه النائب سائلا وما اسم هذا الأستاذ؟، فرد عليه صاحبنا«المبلي»، إنه «السي المدني»، (الله يعمرها سلعة راجل خيارت به، الله يكثر من مثالو، والله يجعل سبب غيابو خير)، ساعتها بادر السيد المدير الإقليمي إلى تدوين اسم الأستاذ (الغائب/الحاضر) في أجندته ليغادر بعدها المدرسة، وهو لا يدري أن مخاطبه، الذي ضبطه متلبسا بجنحة مراودة «السبسي» عن نفسه، هو الأستاذ نفسه الذي سجله في عداد المتغيبين عن العمل، في انتظار اتخاذ المتعين في حقه. آنذاك قفل الأستاذ إلى الحجرة وأطلق سراح التلاميذ، مخبرا إياهم أن سيغيب لثلاثة أيام بالتمام والكمال، وهي المدة عينها التي تضمنتها الشهادة الطبية التي بعث بها إلى مدير المجموعة المدرسية. ويتابع عبد الحكيم أنه حينما التأم معلمو المجموعة المدرسية ذات ليلة في حفل عقيقة أقامه أحد سكان المدشر حكى لهم «السي المدني» ما وقع له مع السيد النائب وختم القصة بالقول « اللهم الأستاذ غايب ولا بالسبسي حصلو النايب»، لتتعالى بعدها قهقهات المدعوين، مفتضة بذلك بكارة السكون الذي كان يخيم على أرجاء الدوار في تلك الليلة الدافئة من أيام فصل الربيع.