مدرسة الأمـير عبد القادر بمكناس..مشاهد محفورة في الذاكرة
تم النشر بتاريخ 16 ديسمبر 2024 على الساعة 15:56
جريدة العاصمة / خليل المنوني
لم أكن أتوقع أن مجرد استعراضي لقائمة الأعلام المنتسبين إلى آل البيت الطاهرين، الذين ورد ذكرهم في كتاب«رياض الأزهار في عدد آل النبي المختار»، للباحث والمؤرخ المقري التلمساني، وضمنهم الأمير عبد القادر الجزائري، سيعود بذاكرتي إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي، عندما كنت تلميذا بالمدرسة الابتدائية «الأمير عبد القادر»، أو مدرسة«لافايـيت»، كما كان يحلو للبعض تسميتها. هذه المؤسسة التعليمية الواقعة بوسط المدينة الجديدة بمكناس(حمرية)، والتي كان لرحمها كل الفضل في إنجاب العديد من الأطر العليا، قبل أن يصاب منذ أزيد من عشر سنوات بالعقم، نتيجة تحويل بنايتها إلى مركز جهوي للتوثيق والتنشيط والإنتاج التربوي، تابع للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين فاس- مكناس، دون أن يجردوها من اللوحة الحاملة لاسمها، في صورة تحيلنا على المثل المغربي الدارج «إلى غاب الزين كيبقاو حروفو».
لم يكن توقف هذه المدرسة عن أداء دورها التربوي، الذي لعبته على مدى عقود من الزمن، ليوقف أمام عيني دوران عجلة مشاهد بقيت محفورة في الذاكرة، بعد أن أعادها للحركة مؤلف التلمساني، على طريقة «الفلاش باك».
أتذكر السنوات الخمس التي قضيتها بين جدران حجرات هذه المدرسة طلبا للعلم والتحصيل، رفقة أصدقاء الأمس البعيد، الذين منهم من وارته الظروف عن الأنظار، ومنهم من بقيت خيوط علاقتي بهم منسوجة وممتدة إلى الآن، حتى أنني أكاد لا أصدق أنه انقضى من عمر صداقتنا، التي لا نتمناها طبعا إلا طويلة ومعمرة، ما يقارب خمسة عقود من الزمن.
أذكر مشهد التلاميذ وقد اصطفوا مثنى مثنى، قبل تخطي عتبة المؤسسة إيذانا بتدشين يوم دراسي جديد، ينطلق من الساعة الثامنة والنصف صباحا إلى الحادية عشرة والنصف ظهرا، ليستأنف في فترة زوالية تمتد من الساعة الثانية حتى الخامسة مساء، وهو التوقيت الذي كان يميز المدرسة عن باقي مؤسسات التعليم الابتدائي بالعاصمة الإسماعيلية، التي كانت تعمل جميعها بنظام فوجين في اليوم، تجنبا للاكتظاظ في غياب حجرات كافية.
في الواقع لم تكن «مدرستنا الحلوة» بحاجة إلى دق الأجراس المعلنة عن وقت الخروج، خصوصا في الفترة المسائية، مادام منبه قطار المسافرين، القادم من العاصمة الرباط في اتجاه مدينة فاس، كان يفي بالغرض، إذ كنا بمجرد سماع منبهه، الذي يفتض بكارة آذاننا، نسارع إلى جمع أدواتنا استعدادا لمغادرة الأقسام، ليتبعه بلحظات رنين جرس المؤسسة، التي تقع على بعد أمتار قليلة من محطة القطار، والتي تحمل هي الأخرى اسم الأمير عبد القادر، وقتها كان القطار يحترم مواعيده بدقة متناهية، ولا يترك طوابير المسافرين تعد الدقائق المحتسبة وقتا للتأخر عن الوصول.
من بين المشاهد الطريفة التي ظلت عالقة بذهني، والتي أستحضرها كلما حلت مناسبة عيد الأضحى الأبرك، تلك التي كان بطلها كبش حارس المدرسة المرحوم«با عبد القادر»، الذي فاجأنا ونحن نلعب وقت الاستراحة، بعدما نجح في التخلص من وثاقه، زارعا بذلك حالة من الذعر والهلع في نفوسنا، بل وفي دواخل معلمينا ومعهم مدير المؤسسة الراحل الركراكي، ما جعل الأخير يصب جام غضبه على الحارس المسكين، الذي وجد نفسه بين مطرقة غضب السيد المدير وسندان التوجس من أن يصيب«بوكرون» تلميذا بمكروه.
أذكر صورة الرجل الملتحي، الذي اعتاد على زيارة المدرسة عشية كل يوم خميس، حاملا معه مجموعة من علب«الياغورت» وقطع الجبن للتلاميذ اليتامى، وكأن ما ينقص هؤلاء هو «دانون»و«الفروماج» فقط، وبتفسير آخر كأن فاقدي الأبوين أو أحدهما من يملكون الحق في الاستفادة من عطايا الشيخ المحسن، والتلذذ بازدراد مشتقات الحليب، على مرأى من زملائهم داخل الفصل الواحد.
لم يكن صاحب «الطربوش الوطني» يدري أنه في الوقت الذي كان يمد اليتامى بما جاد به سخاؤه «الحاتمي» ويوزع عليهم القبلات والابتسامات العريضة، أنه كان بموازاة ذلك يستفز دواخل متعلمين صغار، لا يفهمون معنى لهذه المعاملة التفضيلية. وهنا أستحضر حيلة أحد التلاميذ، الذي أراد أن يعزز صفوف اليتامى طمعا في عطايا الزائر الكريم، فقام خلال الأسبوع الموالي بنعي والده، وهو يذرف دموع تمساح صغير في ثوب تلميذ، لكن هذه الحيلة لم تكن لتنطلي على المعلم الراحل« السي الغريسي»(رحمة الله عليه)، الذي كانت تربطه علاقة صداقة حميمية بالأب «المتوفى مع وقف التنفيذ»، ما جعل نصيب التلميذ «سلخة ديال العصا» بدلا من «كاس ديال دانون».
أذكر كذلك، المعلمة أمينة بنجلون، مدرسة مادة اللغة الفرنسية، والتي كانت تقودنا نهاية كل شهر إلى القيام بحملة «بو نـظـيف» داخل حجرة الدرس، من خلال دعوتنا إلى تنظيف ما علق بالطاولات الخشبية من آثار الحبر الأزرق، الذي كنا نستعمله في الكتابة. فكانت تطلب منا إحضار قطع الإسفنج و«جيكس» و«جافيل» من أجل استخدامها في حربنا المعلنة على الأوساخ و«الطبايع». ورغبة منها في الحصول على طاولات أكثر نظافة ونظارة، كانت تحفزنا بضخ نقط إضافية في رصيد النتائج الفصلية لكل زوجي يشترك في الطاولة، في حال حصوله على المركز الأول في حملة «بو نظيف»، ما يجعل مجهوداتنا في بلوغ النتيجة المرجوة مضاعفة، حتى أن البعض منا يصير ثملا تحث تأثير استنشاقه لرائحة مادة«جافيل»” القوية، في حين لا ينتبه البعض الآخر إلا وملابسه قد تغير لونها جراء رشها بهذا السائل، الذي وإن نجح في القضاء على آثار حبر عبث الريشة، فإنه لن يقدر، مهما بلغت قوة درجاته على سلم التنظيف، على غسل مشاهد عديدة من ذكريات جميلة ورائعة مرتبطة بعالمي الدراسة الابتدائية والطفولة البريئة.