جريدة العاصمة
تعيش مقاطعة فاس المدينة، قلب العاصمة العلمية للمملكة، حالة من التوقف التنموي المثير للقلق منذ شتنبر 2021، حيث تتكشف مؤشرات عدة على تراجع ملموس في مجالات حيوية، رغم الزيادة الملحوظة في الاعتمادات المالية المخصصة لهذه القطاعات، ويكشف تحقيق استقصائي أعدته “جريدة العاصمة” عن حجم التدهور الذي يطال الأنشطة الثقافية والفنية والاجتماعية، ويثير تساؤلات حادة حول مصير الميزانيات الضخمة التي تصرف دون أن تجد لها أثراً ملموساً على أرض الواقع.
وعرفت الأنشطة الثقافية والفنية والاجتماعية بمقاطعة فاس المدينة تراجعاً كبيراً، وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع الزيادة الملحوظة في المخصصات المالية لهذه الأنشطة، وفقاً للوثائق المالية للفترة الممتدة من 2022 حتى يونيو 2025 مقارنة بالمجلس السابق الذي تميز بأنشطته الكبيرة ، بل وصل الأمر إلى إلغاء أنشطة فنية كانت تمثل جزءاً أصيلاً من التراث الفاسي، مثل حفلات فن الملحون التي كانت تقام بساحة حي النجارين. هذا التراجع الخطير يثير تساؤلات كبيرة لدى متتبعي الشأن المحلي حول أوجه صرف هذه الميزانيات الضخمة.
ولم يكن القطاع الرياضي بمنأى عن هذا التدهور، حيث شهد دعم الجمعيات الرياضية تراجعاً كبيراً في عهد المجلس الحالي، كان من أبرز معالم هذا التراجع إغلاق القاعة المغطاة درب العامر وملعب باب الجديد، وهما مرفقان رياضيان حيويان لم يترافع عنهما المجلس بفعالية للحفاظ عليهما، مما أثر سلباً على النشاط الرياضي لأبناء وبنات مقاطعة فاس المدينة الذين يضطرون لتسول اللعب في ملاعب مقاطعات أخرى.
وتعاني ساكنة مقاطعة فاس المدينة من تراجع ملحوظ على مستوى النظافة، فالكنس يقتصر على الشوارع الرئيسية دون أحياء داخل النسيج العتيق، وحتى هذا يتم بشكل غير كافٍ، أما الإنارة العمومية، التي استنزفت ميزانيات ضخمة لتعميم مصابيح “الليد” مع صفقات خاصة بالجماعة و وكالة التنمية ورد الإعتبار لمدينة فاس “لادير”، فلا تزال تشهد تقاطر عشرات الشكايات على المقاطعة، في حين يعجز المئات من المواطنين عن تقديم شكايات بسبب انشغالهم بلقمة العيش، وأشار مهتمون إلى أن العديد من الأحياء لم يشملها برنامج تغطية مصابيح “الليد”، بل إن أحياء تم تركيب المصابيح بها عادت إلى الظلام بعد أسابيع قليلة، مما يثير تساؤلات حول جودة هذه المصابيح ومدى مطابقتها لدفاتر التحملات، وعن الجهة المسؤولة عن تركيبها: هل هي الشركات الفائزة بالصفقات أم العمال العرضيون بالمقاطعة؟
وعلى مستوى الحفر وصف أحد ساكنة المدينة العتيقة الحفر المنتشرة في الشوارع بأنها “جعلت المدينة العتيقة كملعب غولف أو كبغريرَة”، في إشارة إلى كثرة الحفر وتدهور البنية التحتية،
كما تعاني المثلثات السياحية الحيوية، مثل باب أبي الجنود وحي باب الفتوح وباب الرصيف، من تهميش واضح، مما يطرح علامات استفهام حول كفاءة مدبري الشأن العام المحلي بالمقاطعة وقدرتهم على الارتقاء بمستوى المدينة التاريخية والإنخراط في تثمين النسيج العتيق بالمقاطعة، كما تساءل مراقبون عن مصير الشراكة مع الفندق الأمريكي المتخصص في علاج الحيوانات، وما آلت إليه العروض التي قرئت بإسهاب بإحدى دورات المجلس و المتعلقة بإخصاء الكلاب والقطط، وهل كانت مجرد “بروباغندا” إعلامية لا أكثر، وكم عدد الكلاب و القطط التي تم إخصاؤها طيلة هذه المدة ؟ وهل هناك إحصائيات مرتبطة بهذا الخصوص؟ أم أن تلك الشراكة لم تنجح؟
وطرح مهتمون بالشأن العام المحلي تساؤلات حول العدد الفعلي للعمال العرضيين المعتمدين بالمقاطعة، وأماكن عملهم، ومردودهم، والجهات التي تشرف على حضورهم وغيابهم، كما أثاروا شكوكاً حول تحكم الولاءات الحزبية في تخصيص “كوطات” خاصة بالأحزاب لهذه الفئة من العمال والذين رصدت مصادر صور العديد منهم على صفحة الفايسبوك وهم يقومون بحملات إنتخابية لأحزاب ومرشحين داخل المقاطعة وخارجها ، مما يشي بممارسات تفتقر إلى الشفافية والمهنية.
و شهدت المساحات الخضراء بمقاطعة فاس المدينة تراجعاً مستمراً منذ عام 2022، رغم محاولة انطلاق خافتة في أوائل عام 2024 لأسباب لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقال و سرعان ما خبا نجمها، و بزيارة بسيطة للشريط السياحي، وأحزمة المدينة العتيقة، وحدائق وسط المدينة، يتضح حجم التدهور الكبير في هذا الجانب، الذي يؤثر سلباً على جمالية المدينة ورونقها و أصالتها خصوصا مع توافد المئاة من السياح لزيارة الحاضرة الإدريسية.
وفي سياق متصل، أكد مراقبون أن المجلس السابق، الذي سبق 8 شتنبر، كان أداؤه أفضل بكثير على مستويات عدة، وذلك على الرغم من أن الميزانيات التي كانت تحت تصرفه كانت أقل من الميزانيات المخصصة للمجلس الحالي، هذا التباين يثير مزيداً من التساؤلات حول الكفاءة والفعالية في إدارة الشأن المحلي بمقاطعة فاس المدينة، كما يطرح تساؤلات عميقة حول المقارنة بين المنجز و الإعتمادات المالية المخصصة له.

