جريدة العاصمة
يخلد المغرب هذه السنة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، الحدث الذي تجاوز رمزيته الوطنية ليصبح علامة فارقة في تاريخ استكمال الوحدة الترابية للمملكة. فبعد نصف قرن من خروج 350 ألف مغربي ومغربية في مسيرة سلمية استجابة لنداء الملك الراحل الحسن الثاني عام 1975 لاسترجاع الأقاليم الجنوبية، تعيش المملكة اليوم منعطفاً سياسياً ودبلوماسياً حاسماً. تزامن هذا اليوبيل الذهبي مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2797، الذي يمثل تتويجاً للجهود الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس. هذا القرار، ولأول مرة بهذه القوة، رسخ مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب عام 2007 كـحل واقعي والوحيد القابل للتطبيق تحت السيادة المغربية، لقد طوى هذا التأكيد الأممي صفحة المناورات، مؤكداً قناعة المجتمع الدولي بجدية المقترح المغربي، ومعلناً، حسب تعبير الملك محمد السادس، عن مرحلة “ما بعد 31 أكتوبر 2025” التي تتجه نحو الحسم السياسي والتنفيذي للقضية الوطنية.
تجاوزت الأقاليم الجنوبية مكانتها كرمز للوحدة الوطنية لتتحول إلى قطب اقتصادي إقليمي، حيث تشهد دينامية استثمارية غير مسبوقة. ففي مطلع عام 2025، صادقت اللجنة الوطنية للاستثمارات على حزمة من المشاريع الاستراتيجية بقيمة تتجاوز 17 مليار درهم، تركز على البنية التحتية، الطاقات المتجددة، والصناعات البحرية في مدن العيون والداخلة وكلميم وطانطان، وتبرز مشاريع مهيكلة مثل ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يُعد من أضخم المشاريع البحرية في القارة، ويهدف لتحويل المدينة إلى منصة للتبادل التجاري بين أوروبا وإفريقيا. كما يتقدم إنجاز الطريق السريع تزنيت–الداخلة، الذي قطع أشواطاً متقدمة، ليربط شمال المملكة بجنوبها، دافعاً بعجلة التنمية والمبادلات التجارية والسياحية. هذه المشاريع لا تهدف فقط إلى بناء المنشآت، بل تتكامل مع برامج اجتماعية واسعة لرفع مؤشرات التنمية البشرية وتحسين جودة الحياة في المنطقة.
ويعكس التحول في الصحراء المغربية طموح المملكة في تعزيز موقعها كـقوة إقليمية صاعدة وبوابة استراتيجية نحو العمق الأفريقي. فميناء الداخلة الأطلسي ومناطقها الصناعية الجديدة يُشكلان محوراً رئيسياً للتصدير والاستثمار نحو دول الساحل وغرب إفريقيا. ويُعزز هذا التوجه تنامي الاعتراف الدبلوماسي بمغربية الصحراء؛ حيث أصبحت مدينتا العيون والداخلة تحتضنان قنصليات لأكثر من ثلاثين دولة. هذا الحضور الدولي المكثف يؤكد المكانة الجيوسياسية للمناطق الجنوبية، ويجعل منها مجال جذب للاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً في قطاعات الصيد البحري، والطاقات المتجددة، والسياحة البيئية. ونتيجة لهذه الدينامية، تفوقت معدلات النمو في الأقاليم الجنوبية على المعدل الوطني، مساهمة في تقليص البطالة ورفع مستويات الرخاء، ما يؤكد أن خيار التنمية هو الامتداد الطبيعي لمسيرة التحرير.
لم تكن المسيرة الخضراء مجرد حدث سياسي عابر، بل تحولت إلى فلسفة عمل جماعي ورؤية متجددة، تقودها اليوم الرؤية الملكية الاستراتيجية. فكما كانت المسيرة الأصلية سلمية في استرجاع الأرض، فإن المسيرة الجديدة تنموية في بناء الإنسان والاقتصاد. وتُوجّه هذه الرؤية لتحويل الأقاليم الجنوبية إلى القلب النابض للتنمية الأفريقية، من خلال برامج كبرى لتمكين الشباب والمرأة، ودعم المقاولات المحلية، وتحويل الداخلة إلى عاصمة اقتصادية أطلسية. فبعد مرور نصف قرن، تتجسد روح المسيرة في استراتيجية واضحة المعالم، تُرسخ قيم الإجماع الوطني والتضامن، وتُحوّل المغرب إلى دولة مستقرة، طموحة، ومؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، مؤكدة أن التنمية أصبحت رهان السيادة ومجالها العملي.

